البوقالة… سحر السهرات النسائية الجزائرية وقعداتهن…
“بسم الله بديتْ وعلى النبي صليتْ، وعلى الصحابة رضيتْ، وعيَّطْتْ يا خالقي يا مغيث كل مغيث، يا رب السماء العالي” بهذه الجمل جرت العادة أن تُسْتَفتح جلسة البوقالة في سهرات النساء العاصميات، فما هي البوقالة؟ وما تاريخها؟ وأصل تسميتها؟.
ما هي البوقالة؟
منذ وقت بعيد كانت اسطح القصبة العتيقة ووسط دوايراتها مكانا معمورا بلعبة الفأل “البوقالة”، فهي التسلية الأكثر متعة لنساء القصبة قديما، وزينة سهراتهن ولياليهن، خاصة في المناسبات واللَّمات النسوية، مثل ليالي رمضان، الأعياد والأعراس…إلخ. وارتبطت البوقالة بنساء البحارة، وبالفتيات العازبات اللاتي ينتظرن فارس أحلامهن، ومن أرقهن عشقهن للبحارة سواء كانوا صيادين أو من رجال البحر (الجيش، القراصنة …إلخ)، وبإعتبارهم يغيبون شهورا في غيباته، ومنهم من لا يعود أبدا، ينهك الشوق والخوف زوجاتهم وأمهاتم وحبيباتهم، ولمواجهة هواجس الخوف والترقب والحيرة كانت النسوة يسلين خواطرهن بمثل هذه البوقالات، التي تحمل إليهن الفأل الحسن، والأمل لهذا انتشرت هذه اللعبة في المدن الساحلية أكثر من غيرها (العاصمة، دلس، شرشال، تيبازة…إلخ)، ومنها انتشرت إلى المدن القريبة منها كالبليدة، ومدية مثلا. وما ساعد في انتشار البوقالة في العاصمة أكثر وبالضبط القصبة، هو الطابع المعماري لها الذي يتميز بسهولة التنقل عبر اسطح منازلها، وصحون الدويرات التي يجتمع فيها نسوة العائلة الواحدة للسمر.
وتعتبر “البوقالة” فن متفرد فهي إرث شعبي عريق نسوي، اختصت به النساء دون الرجال، وقد ارتبطت بحاجاتهن النفسية، وتتكون من مجموعة من الأشعار الشعبية التراثية الجزائرية، تعود لشعراء مثل احمد بن قيطون، وسيدي لخضر بن خلوف، وابن سهلة، ومصطفى بن ابراهيم، وابن مسايب، وابن التريكي، والزرهوني… وغيرهم ممن لم تصلنا أسماؤهم، كما نجد فيها الأمثال، والحكم المتواترة والمحفوظة، أو كلمات مسجوعة جميلة تنسج وتؤلف من خيالات النسوة ذاتهن إذا كن متمرسات، وغالبا فحواها الحب العفيف والشوق والحنين للأحباب، والحزن على فراقهم والأمل بعودتهم أوبمجيئهم، تتلى بطريقة مسترسلة، وعادة تتكفل السيدات المسنات بقرائتها.
ما هو أصل البوقالة ولما تسمى كذلك؟
وبالنسبة لتاريخ نشأة فن البوقالة وتطوره يبقى مجهولا، ولم يتمكن أي باحث رغم الجهود المبذولة من تحديد أصلها بأدلة ثابتة، وهناك خلاف حولها، ولكن يرجح أن تاريخها يعود للقرن 16م والقرن 17م، حيث انتشرت في قصبة الجزائر في العهد العثماني، وانتشرت في العاصمة و المدن القريبة منها كالبليدة، وشرشال، وتيبازة، وقوراية، وبومرداس، ودلس. ونشير هنا إلى أن هناك ممارسة في طرابلس الليبية تتطابق مع البوقالة الجزائرية في الطقوس، ويحرف إسمها قليلا (لبوكالة) (بالكاف بدل القاف)، ولكن يجهل الرابط بينهما هل هو نتيجة هجرة أم ظرف آخر، كما تتقاطع بنسبة ضئيلة مع طقوس للفأل تنتشر في اليونان وتركيا، حيث تجمع النسوة الماء من النهر ثم يرمينه ويستمعن للفأل، كما يصببنه خلف المسافر تفاؤلا بعودته سالما غانما. واشتق اسم البوقالة من البوقال (أبوقال)، وهو كلمة أمازيغية تعني إناء مصنوع من الفخار، يستخدم للإحتياجات اليومية كشرب الحليب أو الماء او جلبه، والعلاقة بينهما أن البوقال يستخدم في جلساتها، التي لا تقوم إلا بوجوده.
كيف تدار جلسة البوقالة؟
وتسمى جلسة البوقالات (التقصيرة) أو (القعدة)، وتحضَّر لها عُدَّة وفقا للمتوفر والامكانيات المتاحة للنسوة. وعموما تتطلب جلسات البوقالة تقاليد وممارسات، خاصة منها تحضيرات ما قبل عقد الجلسة، وترتبط بالطقوس التطهيرية التحضيرية، حيث يتم تحضير الأواني (البوقال)، وماء سبعة عيون مخلوط بقليل من ماء الزهر او ماء الورد، إضافة لمرش نحاسي فيه ماء زهر للرش، والكانون والفحم والسبع بخورات والعطور، والشموع، إضافة لشاشيةأو طربوش (قبعة) شاب أعزب لتغطية البوقال (الإناء الفخاري) أثناء الجلسة، وعيدان سبع أبواب خشبية تطل على الشارع، قطع الحلي على الأغلب الخواتم. كما تحضر النسوة ألبستهن الجميلة المطرزة، حيث ترتدي النسوة أحسن الثياب التقليدية، كالقفطان والقاط وسروال الشلقة، والأحذية الخفيفة التي لا تصدر صوتا عند المشي. وتعد من أجلها موائد الشاي والقهوة، مرفوقة بألذ الحلويات التقليدية الجزائرية العاصمية كالمقروط، والبقلاوة وغيرها. وكل هذا لشرح صدور الحاضرات للفال الطيب، والأمل والرجاء، وربطهن بالجلسة أكثر، وجعلهن يعتقدن في صحة ما ينتج عنها من فأل.
وبعد التحضير تتم الطقوس التطهيرية كالبخور؛ حيث يتم تبخير المكان بالسبع بخورات ذات رائحة زكية لتطهير المكان، مثل العنبر و الجاوي، وخيوط من ملابس ارملة وقليل من الحنة، وعيدان السبع أبواب وحتى الزيت…إلخ، وذلك لإعتقادهن أنها تبعد الطاقات السلبية منه، ثم يقلب البوقال فارغا للتبخير أيضا، ويقرأ عليه حسب البخور المستخدم كلمات مسجوعة، من أمثال (بخرتك بلجاوي جيبيلي لخبر من لقهاوي )…. إلخ، ثم يعاد قلبه ويملء بكمية من ماء السبع عيون، ولا ننسى أن القصبة كان بها حوالي مئة وخمسون (150) عينا، ويضاف له قليل من ماء الزهر، والذي ارتبط بالحظ عند الجزائريات، وتقوم على هذه الطقوس رئيسة جلسة البوقالة، وهي عادة إمرأة كبيرة في السن تتقن هذه الطقوس، وتحفظ الكثير من البوقالات والأشعار والحكم، وتحسن تفسير وإسقاط الكلام على الحال، وقد حرصت النسوة على إتقان اللعبة وحفظ الاشعار المصاحبة لها، لان ذلك أصبح مقياسا لعراقة اصلها.
وتستفتح جلسة البوقالة بالبسملة، وتلاوة الصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم)، فتقول:” باسم الله بديت وعلى النبي صليت، وعلى الصحابة رضيت، وعيطت يا خالقي يا مغيث كل مغيث، يا رب السماء العالى، يا ربي أعطينا الفال (الفأل) ولاقينا بأولاد الحلال”. ثم تتم بقية الجلسة بخطوات قد تكون فيها بعض الإختلافات البسيطة، وفي تفاصيل صغيرة ومتشعبة، من منطقة لأخرى، ولكن عموما تتم بإحضار البوقال بعد تبخيره وملئه بالماء، ويحمل من قبل فتاتين أو امرأتين من الحاضرات، وترمي فيه النساء والفتيات الحاضرات خواتمهن وقطع الحلي الخاصة بهن، ثم يغطى بشاشية العازب (بقبعة الأعزب)، وتقعد النيات لدى كل واحدة على حسب ما يشغل بالها وقلبها، وذلك بالتفكير في شخص ما من الأحباب أو الأعداء، أو حتى شيء ما أو أمنية معينة، وتقوم بعقد طرف من ثوب أو محرمة أو حتى قطعة قماش اوخيط لتثبيت نيتها عقدة واحدة سهلة الحل، لأن سهولة حل العقدة في حد ذاته فأل حسن، ثم تقوم القائمة على الجلسة بتلاوة البوقالة مما تحفظ أو من إبداعها وما تنطق به سجيتها، وبعد إتمامها، تقوم بإدخال يدها في البوقال لتخرج حلية مما وضع فيه، أو قد تقوم أحد الفتيات الصغيرات الحاضرات من غير المشتركات باللعبة بإخراج الحلية من البوقال، وصاحبة الحلية هي صاحبة الفأل، فتفسرها حسب الشخص او الحدث او الشيء الذي عقدت عليه نيتها بداية، وإن عجزت تفسرها لها القيمة على الجلسة، وهنا لها الخيار فقد تفصح عن موضوع نيتها أو تحتفض به سرا، وبعدها يتم رش ماء الزهر بالمرش النحاسي، للفصل بين بوقالة وأخرى، وهكذا تتواصل الجلسة إلى أن تنتهي كل الحلي من البوقال. وفي آخر الليل يتم إقتسام الماء الموجود في البوقال بين الحاضرات، اللاتي يقمن برميه من على أسطح منازلهن بعد منصف الليل، ثم يصغين للفأل فإذا تلا رميهن له صياح ديك او زقزقة عصفور او مر رجل بالطريق إعتبرنه فأل الفرج، أما إذا سمعت عواءا او نباحا او صراخا أو أي شيء سيء فتتطير به…
كيف يبدوا حاضر لعبة البوقالة؟
وانطلاقا مما يتم في جلسة البوقالة من طقوس، فهي فن يزدهر في الأمن والسلم والرخاء، وينكمش في الفترات الحرجة، لهذا نجدها انحسرت مع مجيء المستعمر الفرنسي، وفي سنوات الازمات كمعركة التحرير، وما قبلها من أحداث، وفي سنوات العشرية السوداء. كما اختفت نهائيا خلال فترات مد الفكر الإسلامي المتشدد، خاصة في الثمانينات والتسعينات، ولم تعد موجودة إلا في الذاكرة العجائز والنساء العاصميات، لأنها إعتبرت ممارسة سحرية تقوم على معرفة الطالع، تحولت مع الوقت للعبة ممتعة لدى النساء، ثم إنتعشت وعادت للوجود مرة ثانية بداية سنوات الالفية الجديدة، ولكن بطرق مختلفة، وفي سياقات مغايرة لأصلها، قد تكون افقدتها بعضا من سحرها ورونقها في جوانب معينة؛ حيث اصبحت توزع في علب الحلوى في الأعراس، عبر كامل التراب الوطني، ورغم أن ذلك ساهم في نشرها، إلا أنه جردها من خصوصياتها، كالبوقال، والبخور والحلي واللمة أوقعدة التقصيرة الجميلة، كما أن أشعارها لاتحفظ ولاتتلى على الحاضرات، إنما تكتب في وريقات وتطوى، ثم يتم فتحها وقراءة الفأل من قبل صاحبته بالذات. كما سعى باحثون كثر لتهذيب كلماتها ومعانيها، خاصة التي تتعلق بالتضرع للأولياء، وأزاحوا بعض الشركيات منها. وأول من إهتم من الباحثين بالبوقالة (قدور لمحامصي)، وبإعتباره إبن أحد العائلات العاصمية، اصدر كتاب باللغة الفرنسية بعنوان (لعبة البوقالة) سنة 1989، وبعده إهتم بالموضوع عدد كبير من الباحثين.
وفي الأخير نشير إلى أن البوقالة تظل خزان من التراث الشعبي غير المادي الشفهي، الذي دون بطرق إعتباطية في زمن متأخر، لكن حروفها المسجوعة وعباراتها تحكي لنا الكثير عن طرق عيش اجدادنا، ولباسهم، واكلهم، وصناعاتهم، وليس هذا فحسب بل تغوص في جوهم النفسي والإجتماعي، فتعطينا صورة عن بنية علاقاتهم، وجزءا من أحاسيسهم، وتفاصيل مخاوفهم وآمالهم وأحلامهم…إلخ، وهي بحق تمثل للدارس نصوصا تحمل في جعبتها الكثير من الأسرار، التي تحتاج للكشف.
أعقد وانوي (نماذج من البوقالات)
- عندنا شجرة معمرة ياقوت، وعندنا فوارة معمرة بلحوت، أعطوني بنتكم وإلا نطيح نموت.
- بعثتلك ياشباب دموعي قرنفلة حمرة، يا عدو بن عدو بدلتني بإمراة، قالي والله يا لالة مانبدلك بلغير، محبتك في قلبي حتى يشيب الطير.
- حبطت للجنان وفرشت زربية، حرقست بحرقوس الذهب حتى لوذنيا، أفرحي يا يما سعدي ولا ليا.
- السفينة لي جات باش انكافيها، باللوز والسكر نطعم غاشيها (ناسها)، وبالزباد والعطر نطلي سواريها، ونطلب ربي لعزيز للحج يديها.
- سبحان من صورك خلقك فتنة للناس، ماولدوكش في البهجة ولا مراكش ولا فاس، فاتح على خدك سبع اجناس، ورد وياسمين وقرنفل وياس، ديتي كل السر وواش خليتي للناس.
- يا مالكتني بزينك يازايدة في عذابي، في الليل أنومك، وفي النهار نترجاك، اعطيني كلمة يرحم لي رباك.
- د. أمال عزري