الحناء… لغة الأعراس والأعياد في الجزائر
ترتبط، منذ قرون، طقوس وضع الحناء في الجزائر بالفرح والجمال، إذ تعتبر من أقدم الرموز الجمالية التي تعبر بها المرأة الجزائرية عن أنوثتها وهويتها، وتكتسي بعدا اجتماعيا وروحيا في مختلف المناسبات، لا سيما الأعراس، الأعياد، والاحتفالات العائلية والدينية.
▫️ تستحضر ذاكرة الجمال الشعبي
تعد الحناء إحدى أعرق عناصر التجميل التقليدي لدى الجزائريات، إذ تعود استعمالاتها إلى قرون خلت، كما تشير دراسات أنثروبولوجية عدة إلى أن الحناء كانت مستخدمة منذ العهد النوميدي، خاصة في المناطق الصحراوية والجنوب الكبير. واستمر استعمالها في فترة الحكم العثماني، حيث ازدهر طقس “ليلة الحناء” ورافق تحضيرات العرائس في قصور الحريم والأسواق العتيقة.
وقد أشار الباحث الفرنسي “كزافييه لوكا” في دراسته عن طقوس الأعراس المغاربية إلى أن الحناء لا تؤدي وظيفة جمالية فحسب، بل تملك رمزية روحية لدى المرأة، إذ تعد وسيلة للحماية من العين والحسد، ومظهرا من مظاهر النضج والخصوبة.
▫️ حضورها راسخ في المناسبات
في الأعراس، تبرز ليلة الحناء كموعد مفصلي ضمن رزنامة التحضيرات، حيث تخصص سهرة كاملة للعروس، تزين خلالها يداها وقدماها بنقوش دقيقة باستخدام الحناء السوداء أو البنية، وترافق الطقوس بالأغاني التراثية ورقصات شعبية على إيقاع “البندير” أو “الطار”، حسب المنطقة.
كما تتزين الفتيات المدعوات بالحناء بدورهن، كنوع من التبرك والاستعداد الرمزي للدخول في مرحلة الزواج. ويمثل هذا الطقس علامة فارقة في الذاكرة الجماعية، يعبر من خلاله عن الفرح العائلي وتلاحم النسوة في طقس جماعي أنثوي أصيل.
أما في المناسبات الدينية، كعيد الفطر وعيد الأضحى، فتوضع الحناء عادة في الليلة السابقة للعيد، خاصة للأطفال والنساء، كنوع من التحضير الروحي والجمالي للفرحة، وهو ما تعكسه الذاكرة الشعبية في المثل الشائع: “الحناء فاليدين والفرحة فالعينين”.
▫️ نقوش تحمل رمزية
تختلف نقوش الحناء باختلاف المناطق الجزائرية، فبينما تفضل النساء في الوسط الجزائري نقوشا دقيقة وزخارف هندسية مستلهمة من الطراز الأندلسي، تميل نساء الجنوب إلى نقوش أمازيغية جريئة تمزج بين الرموز والتمائم، في حين تنفرد بعض مناطق الشرق، مثل قسنطينة وسكيكدة، بأسلوب “الكتابة بالحناء” حيث تخط أسماء أو عبارات دينية أو حب على يد العروس.
تعد هذه النقوش أكثر من مجرد زينة، فهي تحمل رسائل ثقافية وشخصية، وتحفظ في طياتها رمزية تورث من جيل إلى جيل، ما يجعل الحناء لغة صامتة تنطق بتاريخ وهوية المرأة الجزائرية.
▫️ من التقاليد إلى الصناعة
شهدت الحناء، في السنوات الأخيرة، تحولات كبيرة في طريقة استعمالها، فقد انتقل النقش من كونه يدويا تقليديا إلى ما يعرف بـ”الحناء الهندية” أو “الحناء الفورية”، حيث يستخدم القالب الجاهز لتزيين اليد في دقائق. كما دخلت المنتجات الصناعية المستوردة على الخط، ما أثار مخاوف صحية عديدة، دفعت وزارة التجارة الجزائرية إلى تنظيم سوق الحناء وضبط معايير السلامة فيها، خصوصا بعد تسجيل حالات تحسس جلدي بسبب خلطات كيميائية مغشوشة.
ورغم هذه التغيرات، ما تزال الحناء التقليدية المصنوعة من أوراق الحناء المجففة والمطحونة، التي تحضّر في البيوت الجزائرية أو تقتنى من الأسواق الشعبية، تحتفظ بمكانة مرموقة، خصوصا لدى الأمهات والجدات اللاتي يحرصن على الحفاظ على سر الخلطة العائلية الخاصة.
▫️ طقس أنثوي في خطر الزوال
مع تسارع وتيرة الحياة الحديثة، وارتفاع كلفة الأعراس، بدأت بعض العائلات تتخلى تدريجيا عن ليلة الحناء أو تختصرها، خاصة في المدن الكبرى، لصالح مظاهر أكثر عصرية. ورغم محاولات بعض الجمعيات الثقافية إعادة إحياء هذا الطقس عبر تنظيم عروض وورشات تراثية، إلا أن بعض الأصوات تحذر من اندثار هذا التقليد مع الأجيال القادمة.
ومع ذلك، تبقى الحناء أكثر من مجرد لون على اليد، إنها علامة على الانتماء، وهوية جمالية ذات جذور اجتماعية وروحية عميقة، تنقش في الذاكرة الجزائرية بصمت، وتعد من الطقوس النسوية التي تستحق التوثيق والاحتفاء.