السبحة الجزائرية: خرزات تحفظ روعة التراث الصوفي الجزائري
ينسج الحرفيون الجزائريون سبحاتهم كما تنسج الأرواح أذكارها في حلقات الذكر الصوفي، حيث لا تقتصر وظيفة المسبحة على كونها أداة للعد، بل تتجاوزها لتغدو رمزا للسكينة، ووسيلة للتعبير عن الهوية الروحية والثقافية للمجتمع الجزائري، خاصة في طقوس الصوفية التي تجد في السبحة امتدادا لنسقها الروحي العميق.
▫️حرفة متجذرة في التراث
تعد صناعة السبح التقليدية في الجزائر حرفة قديمة متوارثة، تنتشر في مناطق عدة أبرزها العاصمة، قسنطينة، تلمسان، غرداية، ووادي ميزاب، وتتميز بتنوع خاماتها بين خشب العرعار، والعنبر، والعاج، وخشب الصندل، إضافة إلى أحجار العقيق واليسر. وتتطلب صناعة المسبحة دقة متناهية، حيث تمر كل حبة بعمليات متعددة تبدأ بالنحت والتنعيم، ثم التثقيب والخراطة، وأخيرا التجميع والتلميع.
في الأسواق الشعبية الجزائرية، لا تزال بعض الدكاكين تحتفظ بعراقتها، كما في سوق القصبة وسوق سيدي عبد الله في العاصمة، أو سوق سيدي بومعزة بقسنطينة، حيث يتناقل الحرفيون أسرار الصناعة جيلا بعد جيل، ويخصصون لكل نوع من السبح معنى روحانيا أو قيمة رمزية، ترتبط بالخشوع أو البركة أو الذكر.
▫️السبحة والروحانية الصوفية
في السياق الصوفي، ترتبط السبحة في الجزائر بالذكر الجماعي والانفرادي، إذ تراها حاضرة في الزوايا المنتشرة عبر التراب الوطني، من الزاوية البلقائدية في وهران، إلى الزاوية العزوزية في متليلي، والزاوية الهبرية في سعيدة. ويستخدمها المريدون للتسبيح بأسماء الله الحسنى، أو ترديد “الوظيفة” و”الحضرة”، حيث تكون حبات المسبحة بمثابة تراتيل صامتة تنظم إيقاع القلب واللسان.
وتتراوح عدد حبات السبحة ما بين 33 و99 حبة، وفقا لتقاليد الذكر، كما تراعى رمزية الأعداد في بعض الطرق الصوفية التي ترى في العدد “11” رمزا لكمال الولاية، أو “66” إشارة إلى اسم الجلالة. وقد استعملت بعض الزوايا ألوانا معينة للسبح ترمز إلى مراتب في السلوك الروحي، فالسبحة السوداء مثلا دلالة على الهيبة، والبيضاء على الصفاء، والخضراء على الشفاء والتجدد.
▫️السبحة بين الجمال والصمت
لا تغيب القيمة الجمالية عن السبحة الجزائرية، إذ تدخل في صناعتها عناصر الزخرفة والنقش، بل إن بعض الحرفيين يضعون بصمتهم الفنية على “الشرابة” أو “الخرزة الكبيرة” المعروفة محليا بـ”الإمام”، التي تكون غالبا أكبر حجما وتحمل أحيانا آيات من القرآن أو عبارات روحية مثل “هو الله” أو “يا لطيف”.
وقد تطورت صناعة السبحة لتشمل استخدامات أخرى، كزينة في السيارات أو إكسسوار في اللباس التقليدي الجزائري، دون أن تفقد وظيفتها الأصلية كوسيلة للذكر والتأمل. كما ظهرت ورش فنية حديثة أعادت إحياء هذا التراث بأساليب معاصرة، مزجت بين تقنيات الخراطة القديمة والتصاميم الحديثة، ما أتاح للسبحة الجزائرية حضورا في المعارض الدولية للحرف اليدوية، كمعرض الصناعات التقليدية بالجزائر العاصمة، ومعرض تيمقاد الثقافي.
▫️استمرارية رغم التحديات
ورغم ما عرفته الحرفة من تراجع بسبب غزو المنتجات المستوردة، خاصة من الصين وتركيا، لا تزال السبح الجزائرية تحتفظ بمكانتها في قلوب المتذوقين، الذين يفضلون اقتناء المسبحة اليدوية الأصيلة لما تحمله من قيمة روحية، ولمستها الحرفية الرفيعة. كما تسعى جمعيات الحرفيين وبعض المؤسسات الثقافية إلى دعم هذه الحرفة من خلال التكوين والمعارض والترويج الإلكتروني.
وقد ساهمت السياحة الدينية والزوايا والملتقيات الصوفية، في إعادة الاعتبار لرمزية السبحة، كموروث يجمع بين الجمال الحرفي، والعمق الروحي، والانتماء الثقافي.
لا تقتصر السبحة الجزائرية على خيط من الحبات المرتبة، بلتمتد لتصبح سجل حي يعكس الذاكرة الروحية يمثل امتدادا لتراث تجاوز الزمن، ربط بين الحاضر والماضي، واليد بالقلب، والحرفة بالعبادة. هي لغة صامتة تتلى مع كل حركة أصابع في الذكر، على إيقاع قلب ينبض باسم الله.