صوت القرقابو… حين تتكلم سلاسل الأغلال عن الحرية ويصبح الألم فنا في الجزائر
يهز القرقابو الصمت الصحراوي بإيقاعه الحديدي، ينبض في عمق الجنوب الجزائري بإرث موسيقي لا يشبه غيره، يوقظ ذاكرة الأجداد ويحيي في الوجدان صوتا قديما قاوم القيد بالنغمة، وحوا جراح العبودية إلى طقس احتفالي فريد من نوعه. ليس موسيقى وفقط، بل سجل صوتي لذاكرة جماعية نسجت على وقع الألم، ثم صيغت من جديد في قالب ثقافي يلهب الساحات والمواسم في الجزائر والعالم.
يعد القرقابو أو “القراقب” كما يسمى أحيانا من أبرز ملامح الموسيقى ذات الجذور الإفريقية في الجزائر، وتحديدا في مناطق الجنوب الغربي مثل بشار وتاغيت وقورارة. تؤدى خلال طقوس تعرف بـ”الديانة الكناوية”، طقوس صوفية وموسيقية تستحضر الأرواح وتسترجع ذاكرة الموروث الإفريقي الذي حمله العبيد السود إلى شمال إفريقيا خلال قرون من التاريخ العابر للصحراء.
▫️تاريخ من الألم والذاكرة
نشأ القرقابو في أحضان المعاناة. فقد ارتبط ظهوره بفترات الرق والعبودية، حين جلب آلاف الرجال والنساء من إفريقيا جنوب الصحراء إلى الجزائر الكبرى. وفي عز القهر، لم يملك أولئك البشر سوى الصوت والحركة كوسيلتين للتعبير، فاختلقوا موسيقى القرقابو لتروي حكايتهم، وتحمل شفرات الذاكرة من جيل إلى آخر.
تقوم الموسيقى على نغمة رئيسية تصدرها آلات معدنية تشبه الصنوج، تعرف بـ”القراقب”، يمسكها العازفون بكلتا اليدين، وتقرع بإيقاع مزدوج، يشبه في صداها صوت السلاسل التي كان يقيد بها العبيد، لكنها هنا تتحول إلى إعلان للحرية، وإعادة تملك للهوية عبر الإيقاع والغناء.
▫️هوية ثقافية متعددة الطبقات
تعد طقوس القرقابو مزيجا غنيا من الرموز الثقافية والدينية والروحية، حيث ترافقها رقصة جماعية يؤديها رجال يرتدون الزي التقليدي، غالبا بالأبيض، وينغمسون في حركة دائرية تحاكي طقسا تطهيريا جماعيا. يُؤدى الغناء بلغة هجينة بين العربية ولهجات إفريقية، ويعتمد فيه على تكرار الجمل الموسيقية، كنوع من التنويم الإيقاعي الذي يفضي إلى حالة وجدانية أشبه بالاستغراق الصوفي.
وقد أدرجت منظمة اليونسكو في 2001 فنون “القناوة” التي ينتمي إليها القرقابو ضمن التراث الثقافي اللامادي للإنسانية، اعترافا بقيمته الفنية والرمزية، ودوره في تعزيز الحوار الثقافي بين الشمال والجنوب، وبين الأمازيغ والعرب والأفارقة.
▫️من الأسر إلى المسرح
بين الماضي والحاضر، تحول القرقابو من طقس مرتبط بالحلقات المغلقة إلى فن يعرض على المسارح ومهرجانات الفلكلور. وقد ساهمت فرق محلية، على غرار فرقة “قناوة تاغيت” وفرقة “أهل القرقابو” ببشار، في إعادة بعث هذا الفن في صيغ فنية جديدة، تزاوج بين المحافظة على الأصل والانفتاح على الإبداع. كما أن بعض الفرق الشابة تميل إلى دمج القرقابو في الموسيقى العالمية، مثل الجاز والفيوجن، مما يمنحه أبعادا جديدة، دون أن يفرط في روحه العتيقة.
▫️القرقابو كأداة لمقاومة النسيان
في زمن العولمة وتآكل الهويات، يبقى القرقابو شهادة صوتية حية على قدرة الثقافة الشعبية على الصمود والابتكار. إنه أكثر من إيقاع… إنه صوت من تحت الركام، يعلن أن من يحرم من الكلمة، يبدع في الصوت. من يقيد بالسلاسل، يحولها إلى صدى للحياة.
تدرس اليوم هذه الموسيقى في الأوساط الجامعية ضمن علم الأنثروبولوجيا الثقافية، باعتبارها نموذجا لما يسميه الباحث المغربي محمد الناجي “ذاكرة الجسد”، حيث تتحول الحركات والإيقاعات إلى وسيلة للبوح والتوثيق. كما تدرج ضمن المقررات الموسيقية الخاصة بالتراث في بعض معاهد الفنون في الجزائر.
▫️ موسيقى تحمل ثقل الروح
يبقى القرقابو فنا فلكلوريا يعكس ذاكرة شعب بأكمله، فهو يختصر في إيقاعاته مئات القصص الحزينة والسعيدة التي لم تدون، لكنها نقشت في الوجدان بفعل المعاناة لنصقلها الذاكرة الجماعية. هو فن يحيا في روح الجزائريين، شاهد على قدرة الإنسان في تحويل ألمه إلى إبداع، وماضيه إلى هوية نابضة بالحياة.