حوس بلادك !

“عيشوناش الجلابية” سلطانة تقرت تعرف على قصتها الحقيقية 

238

 

يعود تاريخ حكايتنا إلى أربعة أو خمسة قرون خلت، كان فيها “بنو جَلَّاب” أبناء العم أعداء، بعضهم مَلَكَ “تقرت” والبعض الآخر “تماسين” .

كانت كل مدينة منهما محصنة بأسوارها، توصد أبوابها بإحكام حتى يكون أهلها في أمان لا يزعزعه خوف من غزاة أو حيوانات متوحشة، فقد عُرفت بأسوارها المتينة التي شيدها أهل الصحراء فأتقنوا بناءها، وحتى اليوم تشهد سماكة المواد المستخدمة على صلابتها.

ولما كانت الحماية مؤمَّنة في البيوت، كان بوسع الرجال التأخر خارج البيت والثرثرة مع رفاقهم، أما النسوة فينشغلن بتحضير الطعام على الكانون ويتبادلن الجديد من أخبار الناس.

وعلى رأس مدينة “تماسين” كان يحكم أمير رزقه الله سبحانه جل وعلا، ابنة آية في الجمال، أحبها ملك “تقرت” حباً جماً، و كانت الفتاة تدعى “عيشوناش”، وكان والدها فخورًا بأن أنجب جوهرة مثلها، فأنشأها على عُرف القبيلة، وهيَّأها لتعتلي أرقى مناصب العز والجاه.

ولشدة جمالها و رُقيّها طلبها ملك “تقرت” للزواج، لكن والدها لم يعر طلبه اهتماماً، بل إنه ازدراه وحط من قدره، فأين “تقرت” من “تماسين” التي اصطفاها الله ببحيرة ماء.

جن جنون ملك تقرت عند سماعه خبر الرفض، وتَملَّكه الغضب والرغبة معاً، فلم يرض بحال الإذلال تلك، بل جهز العدة والرجال للغزو وقد كان له من الكنوز وسبائك الذهب ما يفتح أعتى الأبواب.

و أعد العدة و اشترى الرجال تحضيرا للمواجهة، وفي ليلة من الليالي قصد رجال مدججون بالسلاح طريق الجنوب ممتطين أسرع النوق، وفي مباغتة قوية وناجحة استطاعوا الاستيلاء على موقعين فثلاثة، إلى أن أنهوا القتال بالظفر بالغنيمة الكبرى “عيشوناش” قبل بزوغ الفجر، فأضحت غزالة أسيرة ملك تقرت.

و رغم أنها أصبح اسيرته، إلا أنه كان اسير قلبها و لم يرضى بإيذائها او حتى أن يغصبها على شيء، وكان يسألها في كل مرّة “هل ترغبين في شيء، من أجلك يصيد رجالي الفهد ويأتيك تجار قوافلي من السودان بالذهب…”

لكن عيشوناش كانت تصمت في كل مرة وتطرق رأسها في دموع مكبوتة، غير أنها في المرة الأخيرة خرجت عن صمتها قائلة:

“أريد رؤية أبي لأطلب منه مسامحتي، فقبولي بحبك يعد إهانة له كما تعلم وسأشعر حينها بالذنب”.

قبِل الأمير طلب حبيبته رغم أن كرامة صهره لا تعني له الكثير، وانطلق رُسل الأمير إلى “تماسين”، وتقول الحكاية إن الاتفاق بين الطرفين جاء بعد مشقة، فلم يكن أمير تقرت ليسمح بعودة عيشوناش لزيارة أهلها، ولم يكن بن جلاب مع حكمته وشدائد الدهر التي مرت به ليتنازل لخصمه عن شيء، وفي آخر المطاف توصل الطرفان الى حل أمثل.

و طلبت الاسيرة من الامير مطلبها الأخير قائلة:

“مولاي، أرجو أن تَمُنُّوا عليَّ بفضلكم مرة أخرى فتسمحوا لي أن أقيم في جناحي لأحضر الكسكس بيدي لوالدي وأرسله له كل صباح كعربون صلح مني، ولأعبر له عن احترامي قبل أن ينزل ضيفاً علينا”.

و قبل طلبها و لكنه أراد أن يتأكد من انها لا تخدعه بمطلبها فأوفف مرسولها و قام بتفتيشه و لم يجد عنده إلا الكسكس كما قالت و ذهبت عنه كل شكوكه.

لكن الجلابيّة وكان هذا هو اسمها بين أهل تقرت نسبة إلى أبيها ابن جلاب، تحضر لأمر خطر. فقد كانت تملأ القفة بالذخيرة و تغطيها من فوق بالسميد الخشن حتى لا يتفطن لها الحراس و استمرت على هذا الحال مدة شعر كامل، حينها ضاق الملك درعا بها و قال لها:

“أما آن لتحضير هذا الكسكس أن ينتهي؟”.. قال الملك.

“بلى مولاي”.. أجابت عيشوناش بصوت ناعم وعيون تفيض حناناً، “وإذا سمحتم سأكتب لأبي رسالة أدعوه فيها للحضور”.

كان مضمون الرسالة يقول:

“يا من تفهم كُنه الكلام، أنا ابنتك التي أنهكتها خدمتك فأصبحت ضعيفة متعبة، تنتظر أن تتفضل عليها بزيارتك”

“فليأت، فليأت وليستعجل بالمجيء”.. قال ملك تقرت دون أن يستشعر مكر ما بين سطور الرسالة، وفي الحال رحل الرسول قاصداً والد عيشوناش محملاً بآخر قفة.

عند حلول المساء، وبعد أن تسلل الظلام إلى الزقاق كان ابن جلاب ورجاله في زي الحرب يتأهبون للقتال وأياديهم على الزناد، ولم يمر وقت طويل حتى اشتعل قتال عنيف تحت نخيل “واد ريغ”، سرعان ما انطفأ، فلم يكن لمقاتلي تقرت غير خناجيرهم، بينما كان المهاجمون يُردونهم قتلى دون هوادة ببنادقهم.

وفي الأخير ورغم شهامة الملك الشاب، فإنه مات مذهولاً دون أن يُدرك حقيقة ما يجري حوله، مات الكثيرون وهم يدافعون عن مدينتهم، وفي النهاية نجحت “عيشوناش الجلابية” في الانتقام لكرامتها وكرامة أبيها، وأصبحت فخر “تماسين” ورمز جمالها وعزتها.

و بعد هذه الحادثة ملكت عيشوناش تقرت لـ 18 عاماً، ويُقال إنها مدفونة في مقبرة الملوك بين أفراد سلالتها، ومقبرة الملوك هذه هي موقع أثري قديم يقع غرب تقرت بالقرب من وسط المدينة

 

سارة عميور

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Translate »
آخر الأخبار