حوس بلادك !

لمعكرة… أسطورة الفتاة الشقية التي تحولت لولية.

690


من القصص التي تناقلها المجتمع العاصمي القديم، والتي تحتوي في طياتها جانبا كبيرا من الصحة والواقعية، وجانبا من العجائبية واللامعقولية، الذي لا يمكننا إثباته أو انكاره، قصة لمعكرة التي تحمل بين ثناياها الكثير من قيم المجتمع الجزائري، كالانسانية والكرم والايثار واكرام الجار، والرأفة بالمسكين، والحنو على المراة في فترة حملها ووحامها…إلخ.
وتبدا قصتنا التي تعود للقرن 17م حسب روَّاتها، من أحد دويرات القصبة العتيقة، بمحاذات جامع بن فارس في القصبة العليا، وكانت تسكنها بنتان ورثتاها عن ابيهما، يامنة الأخت الكبرى، وأختها الصغرى فاطمة الجميلة، التي تسمى لمعكرة، يقال لأنها كانت حمراء الشعر والبشرة، ويقال أيضا انها إشتهرت بالحرص على التزين ووضع العكار( والعكار هو نوع من الزينة التقليدية تشبه الحمرة تسمى اليوم العكار الفاسي)، كما انها تهوى الموسيقى والغناء، وتكسب قوتها من الغناء في بعض المناسبات والاعراس واللمات النسوية في القصبة، ولهذا كانت تعرف بلمسامعية، وهو لقب يتنافى مع الحشمة والحرمة حسب تقاليد المجتمع العاصمي ذلك الوقت، مما أساء إليها وإلى عائلتها، ووصفت بالطيش، ولا يتوقع احد ان تكون لها كرامة من الله او ولاية منه سبحانه، ولكن رغم ذلك كانت فاطمة حنونة جدا كريمة، عكس اختها الكبرى التي اشتهرت بالرزانة والحشمةولكنها بخيلة.
فذات يوم كانت اختها تحضر طعام الغذاء (كما يسميه العاصميون في لهجتهم لفطور)، وطبخت طبق لمثوم المشهور، والذي إنطلقت رائحته المشهية لتصل للدويرات القريبة وتغزو الازقة الضيقة، وما هي إلا دقائق حتى دق الباب وفتحته يامنة، وإذا بجارتها تطلب فحما مشتعلا لإشعال موقدها الذي إنطفأ، فأعطتها يامنة ما طلبت، فانصرفت ثم عادت مدعية انه إنطفأ في الطريق فأعطتها من جديد، ثم اعادت الكرة في الثالثة، فانتبهت فاطمة التي تراقب المشهد من بعيد لسلوك الجارة، وتبعتها لبيتها ثم سألتها عن سبب عودتها الحقيقي، فصارحتها الجارة بأنها حامل وفي حالة وحم، وانها إشتمت رائحة لمثوم فتشهته، وجعلت تروح وترجع طمعا في تذوقه. فعادت لأختها يامنة وطلبت منها ان تعطي الجارة نصيبا مما طبخت، فرفضت الأخت الكبرى، وهو أمر ليس من عادات أو شيم سكان القصبة، فدار جدال طويل بين الاختين، حاولت خلاله فاطمة إقناع أختها بضرورة تلبية طلب الجارة المسكينة بكل الطرق، لكنها اصرت على الرفض، وإنتهى هذا بموقف غريب، حيث طلبت فاطمة من أختها الكبرى أن تسمح لها بإعطاء حصتها من طبق الغذاء (لمثوم) لذلك اليوم لجارتها الحامل، ولكن مقابل ذلك وعدتها بأن تتنازل لها عن حصتها في البيت، الذي ورثاه عن أبيهما رحمه الله، فوافقت الأخت الكبرى مندهشة على ذلك العرض.
أخذت فاطمة حصتها من لمثوم لجارتها فرحة تدندن كعادتها، وعادت فدخلت غرفتها ولم تغادرها على غير عادتها لوقت طال، وفي الليل أحست أختها بحركة غريبة في غرفتها، فقلقت عليها وأرادت تفقدها، فلم تستطع فتح الباب. لكنها إندهشت مما رأت كان ضوءا ابيضا ناصعا ينبعث من تحت الباب ومن ثقوبه، وماءا معطرا يخرج من العتبة، وبخورا طيبا وعنبرا ينبعث من الغرفة، فإستنجدت بجاراتها، اللاتي أتين مسرعات ولمَّا فتحن الباب ودخلن للغرفة دهشن مما رأين، لقد كانت فاطمة لمعكرة ميتة، مغسلة ومكفنة ويداها مخضبتان بالحناء، ومعطرة بمسك لم يشم إنسان مثله من قبل، وشمعتين مشتعلتين عند رأسها عن اليمين واليسار، ولما إنتشر خبرها وسمع بها شيوخ القصبة، إعتبروا ذلك دليل على ولايتها فرفضوا إخراجها من غرفتها لمقبرة القطار المعروفة، ودفنوها بها، لأن اولياء الله يدفنون في مكان موتهم مثل الانبياء عليهم السلام، فكانت بذلك غرفتها التي تنازلت عنها كرما لأختها البخيلة، مقاما لها لا تغادره أبدا.
ومازال قبر فاطمة لمعكرة إلى اليوم في غرفتها، تنيره شمعتان، يحرص زوارها على إشعالهما عند رأسها بلحي العتيق للقصبة، بالضبط في نهج (ملايكة عيسى) حاليا، شاهدا على قصتها التي ذاعت، وتوارثتها الأجيال في القصبة إلى اليوم.

د. أمال عزري

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

Translate »
آخر الأخبار