لونجة بنت الغول.. أسطورة جزائرية تسرد صراع الخير والشر
تعيش الحكايات الشعبية في وجدان المجتمعات، وتأخذ أشكالا متعددة تعكس صراعات وتطلعات الشعوب و حكاية “لونجة بنت الغول” واحدة من تلك الأساطير الجزائرية التي نقلت عبر الأجيال، محملة برموز ودلالات عميقة، تعبر عن الصراع الأزلي بين الخير والشر، وترمز إلى النقاء المتحدي للظروف القاسية.
تجسد لونجة بنت الغول عمق التراث الأمازيغي الجزائري، حيث ارتبطت هذه الأسطورة بمنطقة القبائل الكبرى، وتحديدًا قمم جبال جرجرة التي تحتضن في طياتها روايات عن مخلوقات أسطورية ومغامرات تحاكي النفس البشرية.
تحكي الأسطورة قصة لونجة، الفتاة الجميلة التي ولدت لأبوين غول وغولة، يمثلان الشر المطلق في عالم الخيال الشعبي. ورغم أنها ابنة هذين المخلوقين المرعبين، إلا أن لونجة تميزت بالجمال والنقاء، وهو ما جعلها محط أنظار الجميع، لكن الغول والغولة كانا حائلين بينها وبين أن تعيش حياة طبيعية.
تدور الأسطورة حول معاناة لونجة في بيت والديها اللذين يرفضان أي شخص يحاول الاقتراب منها، وكانت نهاية كل من تقدم لخطبتها أن يصبح طعاما للغيلان. ومع مرور الزمن، تتفاقم معاناة لونجة التي تجد نفسها في عزلة دائمة، محاصرة في عالم لا يشبهها، مما يدفعها للهروب بحثا عن عالم جديد يتسع لنقائها وجمالها.
يأتي عنصر الهروب في الأسطورة كرمز للتحرر من القيود التي يفرضها الشر، سواء كان على مستوى الخوف أو الانصياع للظروف المحيطة. لونجة تقرر الهرب، متحدية كل المخاطر التي قد تواجهها في رحلتها عبر الغابات والجبال، باحثة عن حياة أفضل بعيدا عن والدها الغول ووالدتها الغولة.
يظهر في هذه المرحلة الشاب مقيدش، الذي يمثل تحديًا جديدا في حياة لونجة. ورغم أنه يتظاهر بالحب والرغبة في إنقاذها، إلا أن نواياه كانت بعيدة كل البعد عن الخير، إذ أراد الانتقام من الغول والغولة باستخدام ابنتهما. هنا تبرز حنكة الأسطورة في تقديم مقيدش كرمز للشر المتخفي خلف قناع الحب والخلاص، مما يعزز من فكرة أن الشر قد يتخذ أشكالا متعددة ويختبئ خلف نوايا خادعة.
واحدة من الجوانب المثيرة في أسطورة “لونجة بنت الغول” هي تعدد النهايات التي رواها مختلف الرواة. ففي بعض النسخ، نجد أن مقيدش ينجح في خداع لونجة، ويقنعها بمساعدته على الخروج من الفخ الذي نصبته له الغولة، ليقوم بعد ذلك بقتلها والفرار. هذه النهاية تعكس البعد المأساوي في الأسطورة، حيث يتغلب الشر في بعض الأحيان، ويترك خلفه أثرا من الحزن والفقد.
ومع ذلك، هناك روايات أخرى تعطي القصة نهاية مختلفة تماما، حيث يظهر الأمير الذي ينقذ لونجة من مصيرها البائس، ويأخذها بعيدا عن عالم الغيلان، لتعيش معه حياة سعيدة. هذا الاختلاف في النهايات يعكس الطبيعة المرنة للأساطير الشعبية، التي تتكيف مع تطلعات المجتمعات وتبحث عن الأمل في أصعب اللحظات.
لا تقف أسطورة “لونجة بنت الغول” عند حدود الحكايات الشعبية، بل تجاوزتها لتصبح جزءًا من الأدب والفن الجزائري. وقد استلهمت الكاتبة الجزائرية ووزيرة التربية السابقة زهور ونيسي هذه الأسطورة في روايتها “لونجة والغول” الصادرة في عام 1993، حيث أعادت توظيف رموز الأسطورة لتروي قصة كفاح المرأة الجزائرية خلال فترة الاستعمار، وما عانته من اضطهاد وظلم.
تمثل رواية ونيسي رؤية جديدة للأسطورة، حيث تحولت لونجة من مجرد شخصية أسطورية إلى رمز للمقاومة والصمود في وجه الظروف القاسية. هذا التوظيف للأدب الشعبي يعكس قدرة الحكايات الشعبية على التطور والانتقال من جيل إلى آخر، مع الاحتفاظ بجوهرها الإنساني العميق.
لم يتوقف تأثير الأسطورة عند الأدب فقط، بل انتقلت إلى الشاشة الصغيرة، حيث تم إنتاج عمل تلفزيوني جزائري في عام 2016 يعيد سرد أحداث الأسطورة بطريقة معاصرة. وقد شهد هذا العمل نجاحًا كبيرًا، ما يعكس تفاعل الجمهور الجزائري مع القصص الشعبية التي تربط بين الماضي والحاضر.
تظل أسطورة “لونجة بنت الغول” جزءا أصيلا من التراث الشعبي الجزائري، حملت في طياتها دروسا إنسانية عن الخير والشر، وعن قدرة الإنسان على تحدي مصيره مهما كانت العقبات. هذه الحكاية، التي نجحت في البقاء على قيد الحياة لقرون، تعكس عمق الثقافة الجزائرية وتربط الأجيال ببعضها البعض عبر خيوط من الخيال والأسطورة.
تبقى “لونجة بنت الغول” رمزا للأمل في وجه الشر، حكاية تروى في ليالي الشتاء الطويلة، حاملة معها رسائل عن الشجاعة والإرادة، وداعية إلى الإيمان بأن الخير قادر على الانتصار حتى في أحلك الظروف.